فصل: خلع السلطان على القاضي الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في يوم الثلاثاء خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين ثارت ريح مريسية طول النهار فلما كان قبل الغروب بنحو ساعة ظهر في السماء صفرة من عند غروب الشمس كست الجو والجدران والأرض بالصفرة ثم أظلم الجو حتى صار النهار مثل وقت العتمة فما بقي أحد إلا واشتد فزعه ولهجت العامة بأن القيامة تقوم‏.‏

فلما كان بعد ساعة وهو وقت الغروب أخذ الظلام ينجلي قليلًا قليلًا ويعقبه ريح عاصف حتى كادت المباني تتساقط منه‏.‏

وتمادى ذلك طول ليلة الأربعاء فرأى الناس أمرًا مهولًا مزعجًا من شدة هبوب الرياح والظلمة التي كانت في النهار‏.‏

وعمت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحري وبعض بلاد الصعيد ورأى بعض من يظن به الخير والصلاح في منامه كأن قائلًا يقول له‏:‏ لولا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس ولكنه شفع فيهم فحصل اللطف‏.‏

قلت‏:‏ لم أر قبلها مثلها ولا بعدها مثلها‏.‏

وكان هذا اليوم من الأيام المهولة التي لم يدركها أحد من الطاعنين في السن انتهى‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الآخر ركب السلطان من قلعة الجبل وعدى النيل إلى بر الجيزة وأقام بناحية وسيم حيث مربط الخيول على الربيع بأمرائه ومماليكه يتنزه وأقام به سبعة أيام والخدمة تعمل هناك إلى أن عاد في تاسعه وأقام بالقلعة إلى يوم الخميس سادس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور فوصل فيه الأمير تنبك البجاسي نائب حلب إلى القاهرة وطلع إلى السلطان وقبل الأرض بين يديه على ما قرره الملك الأشرف في أول سلطنته ثم خلع السلطان عليه خلعة الاستمرار وأنزله بمكان ورتب له ما يليق به‏.‏

وأقام تنبك إلى يوم الخميس ثالث جمادى الأولى وخلع السلطان عليه خلعة السفر وخرج من يومه إلى محل كفالته بحلب‏.‏

ثم في يوم الاثنين رابع عشر جمادى الأولى المذكورة خلع السلطان على الأمير جقمق العلائي حاجب الحجاب باستقراره أمير آخور كبيرًا عوضًا عن قصروه المنتقل إلى نيابة طرابلس وكانت شاغرة من يوم ولي قصروه نيابة طرابلس إلى يومنا هذا‏.‏

ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بعظم الوباء بدمشق وأنه وصل إلى غزة‏.‏

واستمر السلطان ولم يكن عنده ما يشوش عليه في جميع أشيائه إلى أن كان يوم الجمعة سابع شعبان ورد الخبر على السلطان بأن الأمير الكبير جاني بك الصوفي فر من الإسكندرية من البرج الذي كان مسجونًا به وخرج من الثغر المذكور ولم يفطن به أحد‏.‏

فلما سمع السلطان هذا الخبر كادت نفسه أن تزهق وقامت قيامته ومن يومئذ حل بالناس من البلاء والعقوبات والهجم على البيوت ماسنذكره في طول سلطنته‏.‏

وتنغص عيش الأشرف من يوم بلغه الخبر واستوحش من جماعة كبيرة من أمرائه وأمسكهم ونفى منهم آخرين حسبما نذكر ذلك كله في وقته‏.‏

ثم في يوم الخميس العشرين من شعبان خلع السلطان على الأمير جرباش الكريمي المعروف بقاشق باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن جقمق العلائي بحكم انتقال جقمق أمير آخور كبيرًا وكانت الحجوبية شاغرة عن جقمق من يوم ولي الأمير آخورية‏.‏

وفيه رسم السلطان بانتقال الأمير تنبك البجاسي نائب حلب إلى نيابة دمشق عوضًا عن الأمير تنبك ميق بحكم وفاته واستقر الأمير جارقطلو الظاهري نائب حماة في نيابة حلب عوضًا عن تنبك البجاسي‏.‏

وكان جارقطلو أيضًا ولي نيابة حماة عن تنبك البجاسي كما تقدم ذكره وكذا وقع أيضًا في الدولة المؤيدية أنه بعد عصيان تنبك البجاسي مع قاني باي نائب الشام وتوجهه إلى بلاد الشرق ولي جارقطلو نيابة حماة بعده أيضًا‏.‏

والعجب أن جارقطلو كان أغاة تنبك البجاسي فكانا إذا اجتمعا في مهم سلطاني لا يجلس تنبك البجاسي من ناحية جارقطلو لئلا يجلس فوقه حياء منه‏.‏

انتهى‏.‏

وتولى الأمير جلبان أمير آخور المؤيد وهو يوم ذاك أحد مقدمي الألوف بدمشق نيابة حماة عوضًا عن جارقطلو‏.‏

وتوجه الأمير جاني بك الخازندار الأشرفي في ثامن عشرين شعبان المذكور بتقاليد المذكورين وتشاريفهم الجميع‏.‏

وكان هذا الأمر يتوجه فيه ثلاثة من أعيان الأمراء فأضاف الأشرف جميع ذلك لجاني بك كونه كان خصيصًا عنده رباه من أيام إمرته فعاد إلى مصر ومعه من الأموال جملة مستكثرة‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثاني شهر رمضان الموافق لسادس عشر مسري أوفى النيل ستة عشرة ذراعًا فنزل المقام الناصري محمد ابن السلطان برسباي في وجوه الأمراء وأعيان الدولة حتى خلق المقياس وفتح خليج السد على العادة وهو أول نزوله إلى ذلك‏.‏

وكان في العام الماضي توئى ذلك الأمير الكبير بيبغا المظفري‏.‏

وفيه أخرج السلطان الأمير سودون الأشقر الظاهري رأس نوبة النوب كان في دولة الملك الناصر ثم أمير مجلس فى دولة الملك المؤيد وهو يومئذ أمير عشرين بمصر منفيًا إلى القدس ثم شفع فيه فأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق وأنعم بإمرته على شريكه الأمير كزل العجمي الأجرود الذي كان حاجب الحجاب في الدولة الناصرية فرج فصار من جملة الطبلخانات والإقطاع المذكور هو ناحية ميمون بالوجه القبلي‏.‏

وفيه ندب السلطان عدة أمراء إلى السواحل لورود الخبر بحركة الفرنج فتكامل خروجهم في ثامن عشرين شهر رمضان المذكور‏.‏

وكان الذي توجه منهم من مقدمي الألوف إلى ثغر الإسكندرية الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس‏.‏

ثم في يوم الخميس عاشر شوال خلع السلطان علي جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي واستقر كاتب السر الشريف بالديار المصرية بعد موت علم الدين داود بن الكويز‏.‏

قال الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله تعالى‏:‏ فأذكرتني ولايته بعد ابن الكويز قول أبي القاسم خلف الألبيري المعروف بالسميسر وقد هلك وزير يهودي لباديس بن حبوس الحميري أمير غرناطة من بلاد الأندلس فاستوزر بعد اليهودي وزيرًا نصرانيًا فقال‏:‏ الخفيف كل يوم إلى ورا بدل البول بالخرا فزمانًا تهودا وزمانًا تنصرا وسيصبو إلى المجو س إذا الشيخ عمرا قال‏:‏ وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك وتظاهر بالإسلام في واقعة كانت للنصارى هو وأبو علم الدين داود بن الكويز وخدم كاتبًا عند قاضي الكرك عماد الدين أحمد المقيري فلما قدم عماد الدين إلى القاهرة وصل أبو جمال الدين هذا في خدمته وأقام ببابه حتى مات وهو بائس فقير لم يزل دنس الثياب مغتم الشكل وابنه جمال الدين هذا معه في مثل حاله‏.‏

ثم خدم جمال الدين هذا بعد موت القاضي عماد الدين عند التاجر برهان الدين إبراهيم المحلي كاتبًا لدخله وخرجه فحسنت حاله وركب الحمار‏.‏

ثم سار بعد المحلي إلى بلاد الشام وخدم بالكتابة هناك حتى كانت أيام الملك المؤيد شيخ فولاه علم الدين بن الكويز نظر الجيش بطرابلس فكثر ماله بها‏.‏

ثم قدم في آخر أيام ابن الكويز إلى القاهرة فلما مات ابن الكويز وعد بمال كبير حتى ولي كتابة السر بالديار المصرية فكانت ولايته من أقبح حادثة رأيناها انتهى كلام المقريزي برمته‏.‏

قلت‏:‏ وعد ولاية هذا الجاهل لمثل هذه الوظيفة العظيمة من غلطات الملك الأشرف وقبح جهله فإنه لو كان عند الملك الأشرف معرفة وفضيلة لانتظر حتى يرد عليه كتاب من بعض ملوك الأقطار يشتمل على نثر ونظم وفصاحة وبلاغة وأراد الأشرف من كاتب سره أن يجيب عن ذلك بأحسن منه أو بمثله كما كان يفعله الملك الناصر محمد بن قلاوون وغيره من عظماء الملوك لعلم تقصير من ولاه لهذه الوظيفة ولاحتاج لعزله في الحال ولولاية غيره ممن يصلح لئلا يظهر في ملكه بعض تقصير ووهن لأنه يقال في الأمثال تعرف شهامة الملك وعظمته من ثلاث‏:‏ كتابه ورسله وهديته فهذا شأن من يكون له شهامة وعلو همة من الملوك‏.‏

وأما الذي بخلاف ذلك فسد بمن شئت وول من كان بالبذل ولو كان حارس مقات‏.‏

ولهذا المقتضى ذهبت الفنون واضمحلت الفضائل وسعى الناس في جمع المال حيث علموا أن الرتب صارت معذوقة بالباذل لا بالفاضل وهذا على مذهب من قال‏:‏ الكامل المال يستر كل عيب في الفتى والمال يرفع كل وغد ساقط فعليك بالأموال فاقصد جمعها واضرب بكتب الفضل بطن الحائط انتهى‏.‏

ثم كتب السلطان باستقرار الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس في نيابة الإسكندرية عوضًا عن الأمير أسندمر النوري الظاهري برقوق وقدم أسندمر المذكور من الإسكندرية إلى القاهرة في رابع عشر شوال وقبل الأرض ونزل إلى داره وكان بيده إمرة مائة وتقدمة ألف زيادة على نيابة الإسكندرية‏.‏

وبعد نزوله أرسل السلطان خلف السيفي يلخجا من مامش الساقي الناصري وأمره أن يأخذ الأمير أسندمر هذا ويتوجه به إلى ثغر دمياط بطالًا وكان ذنب أسندمر المذكور تفريطه في أمر جاني بك الصوفي حتى فر من سجنه ولولا أن أسندمر المذكور كان من أغوات الملك الأشرف المذكور ومن أكابر إنيات الأمير جاركس القاسمي المصارع لكان له معه شأن آخر‏.‏

ثم في تاسع عشر شوال خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الطواشي إفتخار الدين ياقوت الأرغون شاوي الحبشي مقدم المماليك السلطانية وهذه ثاني سفرة سافرها بالمحمل وكان أمير حاج الأول الأمير إينال الششماني الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وحججت أنا أيضًا في هذه السنة‏.‏

ثم في سابع عشرين شوال أمسك السلطان الأمير أرغون شاه النوروزي الأستادار والوزير لعجزه عن القيام بجوامك المماليك السلطانية مع ظلمه وعسفه‏.‏

ثم أصبح السلطان في يوم الاثنين ثامن عشرينه خلع على ناصر الدين محمد بن شمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن المرداوي والمعروف بابن بولي والعامة تسميه ابن أبي والي باستقراره أستادارًا عوضًا عن أرغون شاه المذكور وعوقب أرغون شاه بين يدي السلطان‏.‏

وخبر ابن بولي هذا وأصله أنه كان أبوه من حجة ومردة من أعمال الشام وسكن القدس وصار من جملة التجار وولد له ابنه هذا فتزيا بزي الجند وخدم من جملة الأجناد البلاصية عند الأمير أرغون شاه المذكور أيام أستاداريته لنوروز ثم تنقل إلى أن صار أستادار الأمير جقمق الدوادار وصادره جقمق وصرفه بعد أن كثر ماله‏.‏

ثم خدم بعد ذلك في عدة جهات إلى أن طلب إلى مصر وألزم بحمل عشرين ألف دينار فوعد أنه يحمل منها ثلاثة آلاف دينار ويمهل فيما بقي عدة أيام‏.‏

فلما قبض السلطان على أرغون شاه المذكور سولت له نفسه وزين له شيطانه أن يكون أستادارًا ويسد المبلغ الذي ألزم بحمله من وظيفة الأستادارية فكان خلاف ما أمل ونزل بالخلعة إلى بيت أرغون شاه المذكور وعليه قماشه ثم تسلم أرغون شاه وأدخله إلى داره المذكورة وهو في الحديد فرأى أرغون شاه من كان من جملة غلمانه قد جلس على مقعده وفي بيته وتحكم فيه وأخذ يعاقبه بحضرة من كان يخدمه بها فلما رأى ما حل به دمعت عيناه وبكى فكان في هذا الأمر عبرة لمن اعتبر‏.‏

وفي هذا اليوم المذكور خلع السلطان على الأمير إينال النوروزي المعزول عن نيابة طرابلس قبل تاريخه باستقراره أمير مجلس عوضًا عن آقبغا التمرازي وكلاهما صهري وزوج إحدى أخواتي‏.‏

وفيه أيضًا خلع السلطان على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن كاتب المناخ باستقراره وزيرًا وذلك في حياة والده‏.‏

حكى الصاحب كريم الدين قال‏:‏ دخلت بخلعة الوزارة على والدي فقال لي‏:‏ يا عبد الكريم أنا وليت هذه الوظيفة ومعي خمسون ألف دينار ذهبت فيها ولم أسد تسد أنت من أين قال فقلت‏:‏ من أضلاع المسلمين فضحك وحول وجهه عني‏.‏

ثم في يوم الخميس أول ذي القعدة قدم إلى القاهرة جماعة من إخوة السلطان وأقاربه من بلاد وفيه خرج من القاهرة الأمير قجق العيساوي أمير سلاح والأمير أركماس الظاهري أحد مقدمي الألوف وزين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الجيش إلى مكة على الرواحل حاجين‏.‏

ثم في سادس عشر ذي القعدة المذكورة قدم الأمير جاني بك الأشرفي الخازندار من الشام بعد تقليد نائبها الأمير تنبك البجاسي فخلع السلطان عليه باستقراره دوادارًا ثانيًا عوضًا عن الأمير قرقماس الشعباني الناصري فرج بحكم استقراره أمير مائة ومقدم ألف وتوجهه أمير مكة‏.‏

ومن يومئذ عظم أمر جاني بك المذكور في الدولة حتى صار هو صاحب عقدها وحلها ونال من السعادة والوجاهة والحرمة في الدولة ما لم ينله دوادار في عصره ولا من بعده إلى يومنا هذا‏.‏

وفي هذه الأيام اشتد طلب السلطان على جاني بك الصوفي وقبض على بعض المماليك بسببه وعوقب بعضهم حتى هلك‏.‏

ثم أمسك السلطان أصهار جاني بك الصوفي أولاد قطلوبك الأستادار وعاقب بعض حواشيهم هذا بعد الهجم على بيوت جماعة كبيرة ممن يغمز عليهم بعض أعدائهم فيحل على صاحب البيت المذكور من البلاء والرجيف ما لا مزيد عليه وتداول ذلك سنين وهذا أوله حسبما يأتي ذكره‏.‏

ثم في ثامن عشرين ذي الحجة قدم مبشر الحاج وأخبر بالأمن والرخاء وكثرة الأمطار غير أن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح عن مكة لما أشيع أن السلطان يريد القبض عليه فغضب السلطان لذلك ورسم فنودي على المماليك البطالين ليجهزوا إلى التجريدة لقتال أشراف مكة‏.‏

ثم اشتغل السلطان عن ذلك بأمر جاني بك الصوفي وأخذ فيما هو فيه من كبس البيوت وإرداع الناس وأيضًا لما ورد عليه أن متملك الحبشة وهو أبرم ويقال إسحاق بن داود بن سيف أرعد قد غضب بسبب غلق كنيسة قمامة بالقدس وقتل عامة من كان في بلاده من رجال المسلمين واسترق نساءهم وأولادهم وعذبهم عذابًا شديدا وهم ما في مملكته من المساجد وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم حتى هزمهم وقتل عامة من كان بها وسبى نساءهم وهم مساجدهم فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة في هذه السنة لا يحصى فيها من قتل من المسلمين فاشتاط السلطان غضبًا وأراد قتل بطرك النصارى وجميع ما في مملكته من النصارى ثم رجع عن ذلك‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثاني المحرم من سنة سبع وعشرين وثمانمائة قدم الأمير مقبل الحسامي الدوادار نائب صفد إلى القاهرة وقبل الأرض بين يدي السلطان فخلع عليه باستقرار على عادته‏.‏

وفي ثامن المحرم قدم الأمير قجق وأركماس الظاهري وعبد الباسط من الحج وتأخر الأمير قرقماش الشعباني بالينبع وأرسل يطلب عسكرًا ليقاتل به الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة ويستقر عوضه في إمرة مكة فنودي على المماليك البطالة وعين منهم جماعة مع حسين الكردي الكاشف ليتوجه بهم إلى مكة‏.‏

هذا وقد اشتغل سر السلطان بما أشيع من عصيان الأمير تنبك البجاسي نائب دمشق وصار خبر الإشاعة عنده هو الأهم وأخذ يدبر في القبض عليه قبل أن يستفحل أمره وكتب عدة ملطفات لأمراء دمشق بالقبض عليه هذا وقد قوي عند الملك الأشرف خروجه عن الطاعة وبادر وخلع على الأمير سودون من عبد الرحمن الدوادار في يوم الاثنين ثالث عشرين المحرم باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن تنبك البجاسي فلبس سودون من عبد الرحمن الخلعة ونزل من القلعة سائرًا إلى دمشق على جرائد الخيل ولم يدخل إلى داره‏.‏

وسار سودون من عبد الرحمن إلى جهة دمشق وقد تقدمته الملطفات بمسك تنبك المذكور‏.‏

فلما وقف أمراء دمشق على الملطفات اتفق الجميع وركبوا بمن معهم وأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابع صفر واستدعوا الأمير تنبك البجاسي المذكور ليقرأ كتاب السلطان فعلم بما هو القصد وخرج من باب السر وعليه السلاح في جميع مماليكه وحواشيه‏.‏

فأقبل عليه الأمراء وقاتلوه حتى مضى صدر من نهار الجمعة المذكور ثم انهزموا منه أقبح هزيمة وتشتت شملهم فتحصن منهم طائفة بقلعة دمشق ومضى منهم إلى الأمير سودون من عبد الرحمن فوافوه وهو نازل على صفد‏.‏

واستولى تنبك المذكور على دمشق وقوي بأسه‏.‏

وكان انضم عليه من أمراء دمشق الأمير قرمش الأعور المقدم ذكره من أصحاب جاني بك الصوفي والأمير تمراز المؤيدي الخازندار وغيرهما من أمراء دمشق‏.‏

ثم تجهز تنبك البجاسي هو وأصحابه لما بلغهم قدوم سودون من عبد الرحمن وخرج من دمشق بجموعه في أسرع وقت وسار حتى وافى الأمير سودون من عبد الرحمن وهو نازل على جسر يعقوب في يوم الجمعة حادي عشر صفر وقد قطع سودون من عبد الرحمن الجسر لئلا يصل إليه تنبك المذكور‏.‏

وكان سودون لما خرج من مصر بمماليكه وسار إلى جهة دمشق حتى نزل على صفد وافاه الأمير مقبل الحسامي نائب صفد وسارا معًا حتى نزلا جسر يعقوب‏.‏

فلما بلغ سودون مجيء تنبك إليه جبن عن قتاله وقطع الجسر فقدم تنبك فلم يجد سبيلًا لقتال سودون فبات كل منهما من جهة وكلاهما لا يصل إلى الآخر بسوء فباتوا يتحارسون إلى الصباح‏.‏

فلما أصبح يوم السبت ثاني عشر ضفر شرعوا يترامون بالنشاب نهارهم كله حتى حجز الليل بينهم فباتوا ليلة الأحد على تعبئتهم وقد قوي أمر تنبك‏.‏

وأصبح الأمير تنبك في يوم الأحد ثالث عشرة راحلًا إلى جهة الصبيبة في انتظار ابن بشارة ن يأتيه بجموعه وقد أرصد جماعة لسودون من عبد الرحمن بوطاقه فكتب سودون من عبد الرحمن بذلك إلى السلطان‏.‏

ثم ركب سودون بمن معه على جرائد الخيل وقصد مدينة دمشق وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس يوهم عسكر تنبك البجاسي أنه مقيم بمكانه وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء سادس عشر صفر المذكور وملك المدينة وتمكن من قلعة دمشق‏.‏

وبلغ الأمير تنبك البجاسي ذلك فركب من وقته وساق حتى وافى سودون من عبد الرحمن بدمشق من يومه‏.‏

وبلغ سودون قدومه فخرج إليه وتلقاه بمن معه من عساكر دمشق بباب الجابية وقاتلوه فثبت لهم تنبك البجاسي مع قلة عسكره وكثرة عساكرهم وقاتلهم أشد قتال والرمي ينزل عليه من قلعة دمشق وهو مع ذلك يظهر التجلد إلى أن حرك فرسه في غرض له فأصابته ضربة على كتفه حلته فتقنطر عند ذلك عن فرسه فتكاثروا عليه وأخذوه أسييرًا إلى قلعة دمشق ومعه نحو عشرين من أصحابه وفر من كان معه من الأمراء إلى حال سبيلهم وكتب الأمير سودون من عبد الرحمن في الحال بجميع ذلك إلى السلطان‏.‏

وأما الملك الأشرف فإنه بعد خروج سودون من عبد الرحمن أخذ ينتظر ما يرد عليه من الأخبار في أمر تنبك فقدم عليه كتاب سودون من عبد الرحمن من جسر يعقوب أولًا في يوم الأحد عشرين صفر فعظم عليه هذا الخبر وعزم على سفر الشام‏.‏

واضطرب الناس ووقع الشروع في حركة السفر وأحضرت خيول كثيرة من مرابطها من الربيع‏.‏

وبينما الناس في ذلك قدم كتاب سودون من عبد الرحمن الثاني من دمشق يتضمن النصر على تنبك البجاسي والقبض عليه وحبسه بقلعة دمشق فسر السلطان بذلك غاية السرور ودقت البشائر وكتب بقتل تيبك البجاسي وحمل رأسه إلى مصر وبالحوطة على موجوده وتتبع حواشيه ومن كان معه من أمراء دمشق‏.‏

وهدأ سر السلطان من جهة دمشق وبطلت حركة السفر والتفت إلى ما كان عليه أولًا من الفحص على جاني بك الصوفي‏.‏

فلما كان سابع عشرين صفر المذكور نودي بالقاهرة ومصر على جاني بك الصوفي ووعد من أحضره إلى السلطان بألف دينار وإن كان جنديًا بإمرة عشرة وهدد من أخفاه وظهر عنده بعد ذلك بإحراق الحارة التي هو ساكن بها وحلف المنادي على كل واحدة مما ذكرنا يمينًا عن السلطان‏.‏

هذا بعد أن قوي عند السلطان الملك الأشرف أن جاني بك الصوفي مختف بالقاهرة ولو كان بالبلاد الشامية لظهر وانضم مع تنبك البجاسي وهو قياس صحيح‏.‏

ثم التفت السلطان أيضًا إلى أمر مكة‏.‏

فلما كان يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول نودي بالقاهرة بالخروج إلى حرب مكة المشرفة فاستشنع الناس هذه العبارة‏.‏

ثم عين السلطان جماعة من المماليك السلطانية وأنفق على كل واحد منهم أربعين دينارًا‏.‏

ثم في حادي عشرين شهر ربيع الأول قدم رأس الأمير تنبك البجاسي إلى القاهرة فطيف بها وفي سابع عشري شهر ربيع الأول خلع السلطان على الأمير أزبك المحمدي الظاهري رأس نوبة النوب باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن سودون من عبد الرحمن المنتقل إلى نيابة الشام‏.‏

وخلع على الأمير تغري بردي المحمودي الناصري باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن أزبك المذكور‏.‏

ثم في يوم السبت تاسع شهر ربيع الآخر خلع السلطان على القاضي شمس الدين محمد الهروي باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصرية عوضًا عن جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي ونزل في موكب جليل وكان الهروي علامة في فنون كثيرة من العلوم‏.‏

ثم في يوم الجمعة سابع جمادى الأولى أقيمت الخطبة بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين من القاهرة ولم يكمل منها سوى الإيوان القبلي‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره أستادارًا بعد عزل ناصر الدين محمد بن بولي والقبض عليه وهذه ولاية صلاح الدين الثانية للأستادارية‏.‏

ثم في ثاني عشرة خلع السلطان على الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ واستقر ناظر ديوان المفرد مضافًا على الوزر عوضًا عن القاضي كريم الدين بن كاتب جكم‏.‏

وفي يوم الأحد خامس عشر جمادى المذكور توفيت زوجة السلطان الملك الأشرف ودفنت بالقبة بالمدرسة الأشرفية‏.‏

قال المقريزي‏:‏ واتفق في موتها نادرة وهي أنها لما ماتت عمل لها ختم عند قبرها في الجامع الأشرفي ونزل ابنها الأمير ناصر الدين محمد من القلعة لحضور الختم وقد ركب في خدمته الملك الصالح محمد بن ططر فشق القاهرة من باب زويلة وهو في خدمة ابن السلطان بعدما كالن بالأمس سلطانًا وصار جالسًا بجانبه في ذلك الجمع وقائمًا بخدمته إذا قام فكان في ذلك موعظة لمن اتعظ‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ حضرت أنا هذه الختم المذكورة وشاهدت ما نقله المقريزي بعيني فهو كما قال غير أنه لم يكن في خدمته وإنما جلسا في الصدر معًا بل كان الصالح متميزًا عليه في الجلوس وكذلك في مسيره من القلعة إلى الجامع المذكور‏.‏

وقد ذكرنا طرفًا من هذه المقالة في أواخر ترجمة الملك الصالح المذكور غير أنه كما قاله المقريزي‏:‏ إنه من النوادر‏.‏

ثم في يوم السبت حادي عشرين جمادى الأخرة خلع السلطان على قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصريه بعد عزل قاضي القضاة شمس الدين الهروي ونزل ابن حجي على فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش في موكب جليل إلى قال المقريزي‏:‏ وقد ظهر نقص الهروي وعجزه فقد باشر بتعاظم زائد مع طمع شديد وجهل بما وسد إليه بحيث كان لا يحسن قراءة القصص ولا الكتب الواردة فتولى قراءة ذلك بدر الدين محمد بن مزهر نائب كاتب السر وصار يحضر الخدمة ويقف على قدميه وابن مزهر هو الذي يتولى القراءة على السلطان‏.‏

انتهى كلام المقريزي برمته‏.‏

قلت لا يسمع قول المقريزي في الهروي فأما قوله باشر بتعاظم زائدًا فكان أهلًا لذلك لغزير علمه ولما تقدم له من الولايات الجليلة بممالك العجم ثم بالديار المصرية‏.‏

وقوله وعجزه بما وسد إليه يعني عن وظيفة كتابة السر نعم كان لا يدري الاصطلاح المصري ولم يكن فيه طلاقة لسان بالكلام العربي كما هي عادة الأعاجم‏.‏

وأما علمه وفضله وتبحره في العلوم العقلية فلا يشك فيه إلا جاهل وهو أهل لهذه الرتبة وزيادة غير أنه صرف عن الوظيفة بمن هو أهل لها أيضًا وهو القاضي نجم الدين بن حجي قاضي قضاة دمشق ورئيسهم وكلاهما أعني المتولي والمعزول من أعيان العلماء وقدماء الرؤساء والتعصب في غير محله مردود من كل أحد على كائن من كان‏.‏

انتهى‏.‏

ثم فى سلخ الشهر المذكور

 خلع السلطان على القاضي الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف

بدمشق باستقراره قاضي قضاة دمشق عوضًا عن القاضي نجم الدين بن حجي المقدم ذكره‏.‏

ثم في يوم الخميس رابع شهر رجب خلع السلطان على العلامة علاء الدين علي الرومي الحنفي باستقراره شيخ الصوفية ومدرس الحنفية بالمدرسة الأشرفية بخط العنبريين بالقاهرة وكان له مدة يسيرة من يوم قدم من بلاد الروم‏.‏

ثم قدم الخبر على السلطان بأخذ الفرنج مركبين من مراكب المسلمين قريبًا من ثغر دمياط فيهما بضائع كثيرة وعدة أناس يزيدون على مائة رجل فكتب السلطان بإيقاع الحوطة على أموال تجار الفرنج التي ببلاد الشام والإسكندرية ودمياط والختم عليها وتعويقهم عن السفر إلى بلادهم حتى ترد الفرنج ما أخذوه من المسلمين فكلمه أهل الدولة في إطلاقهم فلم يقبل وأخذ في تجهيز غزوهم‏.‏

ثم ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى جامعه الذي أنشأه بخط العنبريين المقدم ذكره وجلس به ساعة ثم عاد إلى القلعة بغير قماش الموكب‏.‏

ثم في يوم الأربعاء أول شعبان ابتدىء بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان‏.‏

قال المقريزي‏:‏ وحضر القضاة ومشايخ العلم والهروي والشيخ شمس الدين محمد بن الجزري بعد قدومه بأيام وكاتب السر نجم الدين بن حجي ونائبه بدر الدين ابن مزهر وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش والفقهاء الذين رتبهم المؤيد فاستجد في هذه السنة حضور المباشرين‏.‏

وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان بن حسين أن تبدأ قراءة البخاري في أول يوم من شهر رمضان ويحضر قاضي القضاة الشافعي والشيخ سراج الدين عمر البلقيني وطائفة قليلة العدد لسماع البخاري ويختم في سابع عشرينه ويخلع على قاضي القضاة ويركب بغلة بزناري تخرج له من الإسطبل السلطاني‏.‏

ولم يزل الأمر على هذا حتى تسلطن المؤيد شيخ فابتدأ بالقراءة من أول شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان وطلب قضاة القضاة الأربعة ومشايخ العلم وقرر عدة من الطلبة يحضرون أيضًا فكانت تقع بينهم أبحاث يسيء بعضهم على بعض فيها إساءات منكرة فجرى السلطان برسباي على هذا واستجد كما ذكرنا حضور المباشرين وكثر الجمع وصار المجلس جميعه صياحًا‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ ليس في هذا شيء منكر وكما جدد الأشرف شعبان قراءة البخاري في شهر رمضان جعله غيره من أول شعبان وكل ممن فعل ذلك سلطان يتصرف كيف شاء‏.‏

ولا يشد أحد أن التأني في القراءة أفضل من الإدراج لاسيما كتب الحديث ليفهمه كل أحد من مبتدىء أو منته وأيضًا كلما كثر الجمع عظم الأجر والثواب‏.‏

وأما الصياح فلم تبرح مجالس العلم فيها البحوث والمشاحنة ولو وقع منهم ما عسى أن يقع فهم في أجر وثواب وليس للاعتراض هنا محل بالجمة‏.‏

انتهى‏.‏